الأربعاء، 1 نوفمبر 2017

الكامل الأيوبي والتفريط في بيت المقدس


يذكر التاريخ الإسلامي بكل تقدير وإعجاب نجاح صلاح الدين الأيوبي في استرداد بيت المقدس في يومٍ مباركٍ وافق ذكرى الإسراء والمعراج، في (27 من رجب 583هـ=2 من أكتوبر 1187م)، وزاد من جلال الفتح العظيم روح السماحة الكريمة، والنبل الرفيع، والأخلاق العالية التي أضفاها الفاتح النبيل على انتصاره الخالد؛ فلم تغلب عليه شهوة الثأر والانتقام من الصليبيين الذين مارسوا أحطَّ الأخلاق وحشيَّةً وأخسَّها فعلًا، حين استولوا على القدس في (22 من شعبان 492هـ=15 من يوليو 1099م)؛ حيث أُقيمت المذابح للمسلمين العزَّل، وأُبيحت المدينة المقدَّسة للسلب والنهب والقتل عدَّة أيَّام، حتى امتلأت الشوارع بجثث المسلمين وقتلاهم.

الكامل وبيت المقدس

ولم يكد يمضي على عودة مدينة القدس إلى أحضان المسلمين خمسة وثلاثون عامًا حتى كانت عرضة للمساومة والتفريط من قِبَل السلطان الكامل بن العادل الأيوبي سلطان مصر، في واحدةٍ من أعجب التنازلات التي يُقْدِمُ عليها حاكمٌ مسلمٌ حين تشتدُّ به الأزمة، وتُحيط به الملمَّات من كلِّ جانب، فيُقدم على عملٍ طائش، بعيدٍ عن الحكمة والسداد، ويُفرِّط في المقدَّسات التي لا يملك التصرُّف في أمرها شيئًا.

هذا ما أقدم عليه السلطان الأيوبي قبل أن تسقط دمياط في يد الصليبيين في (27 من شعبان 616هـ=5 نوفمبر 1219م) في الحملة الصليبية الخامسة على مصر، فعرض عليهم -بعد أن يئس من قدرة دمياط على الصمود- استعداده لإعادة بيت المقدس إليهم مقابل الجلاء عن مصر.

لكنَّ هذا العرض السخي المفرط في التنازل لم يلقَ إجماعًا في قبوله من قِبَلِ الصليبيين فرفضوه؛ إذ كانوا يمنُّون أنفسهم بالاستيلاء على مصر، وظلُّوا في دمياط ثمانية عشر شهرًا كاملةً دون تحرُّكٍ جادٍّ منهم، حتى تمكَّن المصريُّون من الانتصار عليهم وطردهم من دمياط، وفشلت الصفقة، ونجا بيت المقدس من المقايضة والوقوع في يد الصليبيين.

انقسام البيت الأيوبي

كان لتضامن أبناء السلطان الملك العادل الثلاثة: الكامل محمد، والمعظم عيسى، والأشرف موسى أثره الواضح في تحقيق النصر في دمياط، وإفشال الحملة الصليبية الخامسة بقيادة "حنادي برين"، وكان المأمول أن يظلَّ هذا التحالف قويًّا، لكن ذلك لم يحدث، فانفرط العقد، وانكفأ كلُّ واحدٍ منهم حول ذاته، يُعظِّم من شأن مصالحه ومكاسبه، دون النظر إلى مصلحة أمَّته؛ فشبَّ صراعٌ بين الكامل وأخيه السلطان المعظَّم عيسى صاحب دمشق.

واستعان كلٌّ منهما بقوى خارجيَّة لمؤازرته في مواجهة الآخر؛ فاستنجد الملك المعظم بالسلطان جلال الدين بن خوارزم شاه سلطان الدولة الخوارزمية، في حين استعان السلطان الكامل بالإمبراطور فريدريك الثاني صاحب صقلية وإمبراطور الدولة الرومانية في غرب أوربَّا.

وكان الثمن الذي أعلنه السلطان الكامل للإمبراطور فريدريك هو تسليمه بيت المقدس وجميع فتوح صلاح الدين بالساحل الشامي، وذلك مقابل مساعدته في حربه ضدَّ أخيه المعظم، ويا له من ثمنٍ غالٍ في مقابل هدفٍ غير نبيل.

وإذا كان السلطان الكامل قد عرض تسليم القدس للصليبيين مقابل الجلاء عن دمياط، فإنَّه قد يلتمس له البعض العذر فيما أقدم عليه؛ فإنَّ هول المصيبة قد أطاش بلبِّه، وأعجزه عن التفكير السليم، ولكن ليس له عذرٌ في عرضه الثاني، فضلًا عن كونه لا يملك الحقَّ في هذا التنازل أصلًا، وهذا من أعجب ما يُقابله الإنسان في تصفُّحه للتاريخ الإسلامي: تفريط دون حاجة، وتنازل مقابل أهداف غير نبيلة.

فرصة فريدريك الثاني

أرسل السلطان الكامل مبعوثه الأمير "فخر الدين يوسف" بهذا العرض إلى الإمبراطور فريدريك الثاني، فأحسن فريدريك استقباله في صقلية، وردَّ على السلطان بسفارةٍ مماثلة، وقد دعم هذا العرض السخي ما كان يعتمل في نفس الإمبراطور من القيام بحملةٍ صليبيةٍ إلى الشام، وقطعَ تردُّده في النهوض بهذه المهمَّة التي كان يستحثُّه البابا جريجوري التاسع في النهوض بها؛ فغادر صقلية في (رجب 625هـ=يونيو 1228م) قاصدًا بلاد الشام، ممنِّيًا نفسه ببيت المقدس، وبمجدٍ يُحقِّقه، يظلُّ التاريخ الأوربِّي يلهج بذكره.

وكانت تلك الحملة التي عُرفت في تاريخ الحروب الصليبية بالحملة الصليبية السادسة من أعجب الحملات؛ فلم يتجاوز أفرادها ستمائة فارسٍ فقط، وأسطول هزيل، وكأنَّ الإمبراطور فريدريك جاء إلى الشام ليُفاوض لا ليُحارب، أو أتى إلى الشرق في نزهةٍ جميلة.

وعندما وصل إلى "عكا" وجد الأمور على غير ما يتمنَّ؛ فالسبب الذي من أجله استدعاه السلطان الكامل قد زال وانتهى؛ فالملك المعظَّم عيسى الذي كان يعمل على التوسُّع على حساب إخوته وأهل بيته قد تُوفِّي، فلم تعد هناك حاجةٌ تدعو السلطان الكامل إلى الوفاء بوعده للإمبراطور فريدريك، بعد أن اقتسم الأخوان الكامل محمد والأشرف موسى ممتلكات أخيهما المعظَّم عيسى مثير القلاقل، وعادت الأمور في البيت الأيوبي إلى الهدوء والاستقرار.

سلاح المفاوضة والاستعطاف

ساء موقف الإمبراطور فريدريك الثاني من تغيُّر الأوضاع، ولم يبقَ له سوى سلاح المفاوضة والاستعطاف، لتحقيق الهدف الغالي والأمل المنشود؛ فأرسل سفارةً إلى السلطان الكامل تحمل له هدايا نفيسة، وتطلب منه الوفاء بما تعهَّد به للإمبراطور، وتسليم بيت المقدس له، وكان طبيعيًّا أن يرفض السلطان الكامل هذا الطلب بعدما تبدَّلت الأحوال التي ألجأته إلى القيام بهذا العرض، غير أنَّ رفض السلطان زاد من إصرار الإمبراطور على تكرار الطلب، والمبالغة في استمالة السلطان واستعطافه إلى حدِّ التذلُّل والبكاء.

وبلغ به الأمر إلى أنَّه كتب إلى السلطان الكامل في أثناء المفاوضات: "أنا مملوكك وعتيقك وليس لي عمَّا تأمره خروج، وأنت تعلم أنِّي أكبر ملوك البحر، وقد علم البابا والملوك باهتمامي وطلوعي، فإن رجعت خائبًا انكسرت حرمتي بينهم! .. فإن رأى السلطان أن يُنعم عليَّ بقبضة البلد والزيارة، فيكون صدقةً منه، ويرتفع رأسي بين ملوك البحر".

تسليم بيت المقدس

أفلحت هذه السياسة وأثمرت استعطافات فريدريك في استمالة قلب السلطان الكامل، وكان رجلًا متسامحًا، ففرَّط فيما لا يملكه، وتسامح فيما لا يجوز التسامح فيه، ووافق على تسليم بيت المقدس دون أن يبذل الإمبراطور في الاستيلاء عليه قطرة دم، أو ضربة سيف، أو طعنة رمح؛ وإنَّما فاز ببيت المقدس بدمعة عين، وخداع نفس، وحقَّق ما عجز عن تحقيقه ريتشارد قلب الأسد بجيوشه الضخمة وإمكانيَّاته الكبيرة.

واتَّفق الفريقان على عقد اتفاقيَّة يافا في (22 من ربيع الأول 626هـ=18 من فبراير 1229م)، بمقتضاها تقرَّر الصلح بين الطرفين لمدَّة عشر سنوات، على أن يأخذ الصليبيُّون بيت المقدس وبيت لحم والناصرة وصيدا.

ونصَّت المعاهدة على أن تبقى مدينة القدس على ما هي عليه، فلا يُجدِّد سورها، وأن يظل الحرم بما يضمُّه من المسجد الأقصى وقبة الصخرة بأيدي المسلمين، وتُقام فيه الشعائر، ولا يدخله الفرنج إلَّا للزيارة فقط.

وبعد عقد الصلح اتَّجه فريدريك إلى بيت المقدس، فدخل المدينة المقدَّسة في (19 من ربيع الآخر 626هـ=17 من مارس 1229م)، وفي اليوم التالي دخل كنيسة القيامة، ليُتوَّج ملكًا على بيت المقدس.

الحزن عادة!!

استقبل المسلمون نبأ تسليم المدينة المقدَّسة بالأسى والحزن، وعمَّ السخط أرجاء العالم الإسلامي، وأُقيمت المآتم في المدن الكبرى، ويُصوِّر المقريزي ما حلَّ بالمسلمين من ألمٍ بقوله: "فاشتدَّ البكاء وعظم الصراخ والعويل، وحضر الأئمَّة والمؤذِّنون من القدس إلى مخيَّم الكامل، وأذَّنوا على بابه في غير وقت الأذان... واشتدَّ الإنكار على الملك الكامل، وكثرت الشفاعات عليه في سائر الأقطار".

ولمـَّا أحسَّ السلطان الكامل أنَّه تورَّط مع ملك الفرنج أخذ يُهوِّن من أمر تسليم بيت المقدس، ويُعلن أنَّه لم يُعطِ الفرنج إلَّا الكنائس والبيوت الخربة، على حين بقي المسجد الأقصى على حاله، غير أنَّ هذه المبرِّرات لم تنطلِ على أحدٍ من الناس.

وظلَّ بيت المقدس أسيرًا في أيدي الصليبيين نحو خمسة عشر عامًا يشكو إلى الله ظلم الحكَّام وسوء تصرُّفهم، حتى نجح الخوارزميُّون في تحريره (عهد السلطان المجاهد الملك الصالح نجم الدين أيوب) في (3 من صفر 642هـ=11 من يوليو 1244م).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حوحو للمعلوميات

حوحو للمعلوميات ...